سليمان بن صُرَّد الخزاعي .. قائد ثورة التوابين
(من خرج يريد بخروجه الله والآخرة فذلك منّا ونحن منه فرحمة الله عليه حياً وميتاً، ومن كان إنما يريد الدنيا، فو الله ما يأتي فيء نأخذه ولا غنيمة نغنمها ما خلا رضوان الله، وما معنا من ذهب ولا فضة ولا متاع إلا سيوفنا على عواتقنا، ورماحنا في أكفنا، وزادٌ قدر البلغة فمن كان ينوي غير هذا فلا يصحبنا).
هذا ــ باختصار ــ كان هدف التوابين، وبهذه الكلمات أوضح قائدهم الصحابي الجليل والشهيد سليمان بن صُرَّد الخزاعي (رضوان الله عليه) الموقف لجميع أصحابه عندما قام بثورته ضد الحكم الأموي، في تلك الظروف القاسية والخطيرة التي كان القيام فيها على السلطة يعني الموت، وكان سليمان على علم تام بالأساليب القمعية والوحشية ووسائل التعذيب النفسي والبدني التي تمارسها السلطة ضد المعارضين لها، وهو بنفسه قد تعرّض لها، لكنه صمم على النهوض مع أصحابه وليس في حسابه سوى الشهادة والتأسي بسيد الشهداء الإمام الحسين (ع) في ثورته العظيمة، والمضي على ما مضى عليه (ع)، فأوضح موقفه قبل الحرب ليكون الجميع على علم تام وبيّنة من أمره، فكان تأثير كلامه هذا كبيراً على جميع من خرج تحت اسم الثورة وكانوا خمسة آلاف رجل، ولكنه كان تأثيراً متبايناً، فقد هزّت هذه الحقيقة القلوب الضعيفة والنفوس المهزوزة التي كان الهدف من خروجها الدنيا والمغانم، فانحاز ألف وتسعمائة منهم جانباً كخطوة أولى للانهزام والتنصّل من هذه المسؤولية، وبقي ثلاثة آلاف ومائة رجل التفوا حول سليمان وهم على أعلى درجات اليقين والثبات على الثورة ضد الظالمين.
أبو المطرف سليمان بن صرد بن جون بن أبي الجون بن منقذ بن ربيعة بن أصرم الخزاعي، ولد في مكة المكرمة، أما سنة ولادته فلم تذكرها المصادر غير أنه يمكن تحديد ذلك من خلال سنة استشهاده وعمره حينها، حيث اتفقت التواريخ على أنه استشهد في عين الوردة سنة (65 هـ / 685 م) عن (94) سنة، وهذا يعني أن ولادته كانت قبل الهجرة الشريفة بـ (28) سنة، (594 م)، وقد عدّه ابن سعد (1)، وابن عبد البر (2)، وابن الأثير (3) من الصحابة، وقالوا: (إن اسمه يسار وقد سمّاه النبي (ص) سليمان)، كما قال بصحبته للنبي (ص): أبو عبد الله المقدسي، (4)، وأبو حاتم الرازي (5)، والذهبي (6) وابن حبّان (7)، والخطيب البغدادي (8)
وكما لم تذكر المصادر سنة ولادته فلم تذكر سنة إسلامه ولا شيئاً عنها، غير أنه يُستشف من بعض التواريخ أنه قد أسلم قبل السنة الخامسة للهجرة وهي السنة التي جرت فيها معركة الخندق، بقرينة حضوره فيها وروايته لحديث النبي (ص): (الآن نغزوهم ولا يغزوننا)، كما روى ذلك البخاري في صحيحه (9) والطبرسي في تفسيره (10) وقد أكد السيد الخوئي صحبته أيضاً (11)
روى سليمان عن النبي (ص) مباشرة، وعن أمير المؤمنين (ع)، والإمام الحسن (ع)، وحذيفة بن اليمان، وأُبي بن كعب، وجبير بن مطْعِم، وروى عنه: تميم بن سلمة، وشقير العبدي، وعبد الله بي يسار الجهني، وعدي بن ثابت، وعمرو بن عبد الله السبيعي، ومسلم بن صبيح، ويحيى بن يعمر، وأبو عبد الله الجدلي وغيرهم. كما اتفقت مصادر الفريقين على تقواه وورعه فجاء في ترجمته في المصادر التي ذكرناها وفي مصادر الفريقين الأخرى أنه: (كان خيِّراً فاضلاً له دين وعبادة، وكان له سن عالية وشرف وقدر وكلمة في قومه، سكن الكوفة، وابتنى داراً في خزاعة، وكان نزوله بها في أول ما نزلها المسلمون).
أما ولاؤه لأمير المؤمنين (ع) وعقيدته في أهل البيت (ع) فهي صافية لا غبار عليها، وشهد له الجميع بهذا الولاء الخالص، فعندما اجتمع الشيعة في داره بعد مقتل الحسين (ع) للتداول في من سيقود الثورة التي سُمِّيت بالتوابين، قال رفاعة بن شداد البجلي: (فإن رأيتم ولَّيْنا هذا الأمر شيخ الشيعة وصاحب رسول الله (ص) سليمان بن صرد، فقال المسيب بن نجية: أصبتم ووفقتم) (12) ووصف رفاعة بن شداد البجلي الذي كان من كبار الشيعة، يدل على مكانة سليمان العظيمة في الكوفة.
كما عده الشيخ المفيد من: (علية الشيعة وأهل الفضل في الدين والإيمان والعلم والفقه والقرآن، المنقطعين إلى الله تعالى بالعبادة والجهاد والتمسّك بحقائق الإيمان) (13)
ووصفه السيد عبد الحسين شرف الدين بأنه: (كبير شيعة العراق في أيامه، وصاحب رأيهم ومشورتهم) (14)
وقال السيد الخوئي: (لا ينبغي الإشكال في جلالة سليمان بن صرد وعظمته) (15)
كما وثقت تشيعه وولاءه المصادر السنية، يقول عنه الذهبي وغيره: (من شيعة علي، ومن كبار أصحابه) (16)
حضر سليمان مع أمير المؤمنين (ع) حربي الجمل وصفين كما نص على ذلك ابن سعد، وقال ابن الأثير والشيخ المفيد: (أن سليمان حضر حروبه (ع) كلها وكان أحد قادة جيشه في صفين)، وقد قتل القائد في جيش معاوية حوشباً ذا ظليم الألهاني مبارزة، ويروي نصر بن مزاحم خبر هذه المبارزة فيقول: (ثم إنّ حوشباً ذا ظليم، وهو يومئذٍ سيد أهل اليمن، أقبل في جمعه وصاحب لوائه يقول:
نحن اليمانيون منا حوشبُ *** ذا ظليــمٍ أين منّا المــهربُ
فينا الصفيحُ والقنا المعلّبُ *** والخيلُ أمثال الوشيجِ شُزَّبُ
إنَّ العراق حبــلها مذبذبُ *** إنَّ علياً فيــــــــــــكمُ محبّبُ
فخرج إليه سليمان بن صرّد الخزاعي وهو يقول:
يا لكَ يوماً كاسفاً عصبصبا *** يا لكَ يوماً لا يواري كوكبا
يا أيها الحــيُّ الـــذي تذبذبا *** لسنا نخـافُ ذا ظليمٍ حوشبا
لأنّ فينا بطــلاً مجرَّبا *** ابن بديـــــــــلٍ كـالهزبرِ مغضبا
أمسى عليٌّ عنــدنا مُحبَّبا *** نفديــــــــهِ بـالأُمِّ ولا نبقي أبا
كما شهدت له صفين بطولات ومواقف أخرى دلت على صلابته وشجاعته يقول نصر: (بعد أن كُتبت صحيفة التحكيم في صفّين جاء سليمان بن صرد الخزاعي إلى أمير المؤمنين (ع) ووجهه مضروب بالسيف، فلمّا نظر إليه علي (ع) قال: (فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)، فأنت ممن ينتظر وممن لم يبدل). فقال سليمان: (يا أمير المؤمنين، أما لو وجدت أعواناً ما كتبت هذه الصحيفة أبداً، أما والله لقد مشيت في الناس ليعودوا إلى أمرهم الأول، فما وجدت أحداً عنده خير إلّا قليلاً) (18) وهذه الكلمة من أمير المؤمنين (ع) تشهد لسليمان بالإيمان المطلق الذي لا تشوبه شائبة والإخلاص المحض له (ع)، وقد كان سليمان موضع ثقته فولاه على الجبل وجاء في كتابه (ع) إليه وهو بالجبل: (ذكرت ما صار في يديك من حقوق المسلمين، وإن من قبلك وقبلنا في الحق سواء، فأعلمني ما اجتمع عندك من ذلك، فأعط كل ذي حق حقه، وابعث إلينا بما سوى ذلك لنقسمه فيمن قبلنا إن شاء الله) (19)
كان سليمان من أشد الناقمين الشيعة على السلطة الأموية وسياسة معاوية، وقد اجتمع الشيعة في بيته بعد موت معاوية للتداول في أمر الأمة وما يحتم عليهم الوضع عمله، وكان سليمان كبير الشيعة في الكوفة، ويروي الطبري ما جرى في اجتماعهم هذا عن محمد بن بشير الهمداني فيقول: (اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد، فذكرنا هلاك معاوية، فحمدنا الله عليه، فقال لنا سليمان بن صرد: إنّ معاوية قد هلك، وإنّ حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإن خفتم الوهن والفشل، فلا تغرّوا الرجل من نفسه. فقالوا: بل نقاتل عدوه، ونقتل أنفسنا دونه. فقال: فاكتبوا إليه) (20)
وبعد أن تيقّن سليمان من كلامهم وعاهدوه على نصرة الإمام الحسين (ع) كتب الشيعة أول الكتب إلى الإمام الحسين وقد جاء نص الكتاب: (من سليمان بن صرد الخزاعي، والمسيب بن نجية، ورفاعة بن شدّاد، وحبيب بن مظاهر، وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.. أما بعد: فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأُمة، فابتزها أمرها، واغتصبها فيأها، وتآمر عليها بغير رضاً منها، ثم قتل خيارها، واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بعُدت ثمود. إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحق، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة، لسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام، إن شاء الله. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته).
كان هذا الكتاب نابعاً عن الولاء الخالص والعقيدة الصافية التي يحملها هؤلاء تجاه القضية الحسينية وأهل البيت (ع)، وليس ككتب النفاق التي كتبت بمداد الغدر التي أرسلها النفعيون والوصوليون فيما بعد، وكان الحسين (ع) يعرف من سليمان وأصحابه هذا الوفاء، ولكن ما الذي جرى لسليمان ..
بعد هذا الكتاب يغيب اسم سليمان عن مسرح الأحداث فلا نجد له دوراً أو أثراً في الأحداث الكثيرة والمهمة التي جرت في الكوفة، وهذا مما يثير التساؤل والاستفهام خاصة وأنه زعيم الشيعة وشيخها في الكوفة ــ معقل التشيّع ــ ؟ وهذا السؤال تجيبنا عليه الأحداث التي جرت عند دخول ابن زياد إلى الكوفة والاجراءات التي عملها ضد الشيعة، يقول التاريخ: (بعد أن دخل القصر، واطلع على حقيقة مجريات حركة الأحداث في الكوفة، مهّد لقراراته وإجراءاته بخطاب إرهابيّ توعّد أهل الكوفة فيه بالسوط، والسيف، ورغّبهم بالانقياد) (21). وكان من المستحيل على رجل مثل سليمان الانقياد لسلطة ابن زياد، ثم ماذا ؟ بل كان من الطبيعي أن يكون الهدف الأول لابن زياد لتصفيته أو اعتقاله على الأقل وهذا ما جرى ..
فقد شن هجمة شرسة على الشيعة (لتقصّي أخبارهم، وتصفيتهم، وزجهم في السجون، فحبس ميثم التمار وقتله وصُلب معه تسعة من أصحابه) (22)، (وقتل رشيد الهجري) (23) (وحبس المختار وعبد الله بن الحارث، بعد أن شتم المختار واستعرض وجهه بالقضيب فشتر عينه، وبقيا في السجن إلى أن قُتل الحسين (ع))، (24) (وسجن سليمان بن صرد، وإبراهيم بن مالك الأشتر) (25)
وهذه الأقوال تفنّد وتدحض ما جاء في بعض المصادر من: (أن سليمان كان من المتخاذلين عن نصـرة الإمام الحسين (ع)، وكان كثير الشك والتردد، وأنه ندم على تركه نصرته، وقد قام بثورة التوابين ليكفر عن ذنبه بالطلب بثأره)، كما روى ذلك بألفاظ مختلفة كل من: ابن عبد البر، (26) وابن الأثير (27) وابن سعد (28)
والملاحظ أن اتهامهم لسليمان بالتخاذل لا يعقل ولا يصح على رجل مثله في صلابته وإيمانه وقوة عقيدته، كما دلت على ذلك مواقفه طوال حياته، ويدل كتابه الذي أرسله للإمام الحسين (ع) على أنه كان على أتم الاستعداد لنصرته (ع) والتضحية دونه فلا يمكن له أن يتنصّل عما وعد به من النصرة وهو ما جعل ابن زياد يعتقله بعد أن عرف بخبر الكتاب.
وإضافة إلى ما ذكرنا من المصادر، فقد ذكر خبر سجن ابن زياد لسليمان، الشيخ المحقق باقر شريف القرشي الذي نقل عن كتاب: (الدر المسلوك في أحوال الأنبياء والأوصياء) (29): أن ابن زياد اعتقل أربعمائة من الأعيان، فيهم سليمان بن صرد، والمختار الثقفي (30).
كما ينفي تخاذله وتردده أقوال علمائنا الأعلام التي وثقته ووصفته بالإخلاص لأهل البيت (ع)، فعدّه الفضل بن شاذان في طليعة تابعي أهل البيت ومواليهم والثابتين على منهجهم حيث قال: (فمن التابعين الكبار، ورؤسائهم، وزهادهم جندب بن زهير، قاتل الساحر، وعبد الله بن بديل، وحجر بن عدي، وسليمان بن صرد، والمسيب بن نَجية، وعلقمة، والأشتر، وسعيد بن قيس وأشباههم، أفناهم الحرب، ثم كثروا بعد، حتى قتلوا مع الحسين (ع) وبعده) (31) .
وقال الشيخ المفيد: (إن سليمان بن صرد الخزاعي من الأشخاص الذين بايعوا الإمام أمير المؤمنين (ع) وثبتوا وشهدوا مشاهده كلها)، وعدّ اسمه عاشراً من ضمن جماعة من خلص شيعته وصفهم بقوله:
(ممن كانوا بالمدينة عند قتل عثمان، وأطبقوا على الرضا بأمير المؤمنين (ع) فبايعوه على حرب من حارب وسلم من سالم، وأن لا يُولوا في نصرته الأدبار، فحضروا مشاهده كلها، لا يتأخر عنه منهم أحد حتى مضى الشهيد منهم على نصرته، و بقي المتأخر منهم على حجته، حتى مضى أمير المؤمنين عليه السلام لسبيله…) (32)
عند وصول الإمام الحسين (ع) إلى كربلاء كان عبيد الله بن زياد قد أحكم قبضته على الكوفة بعد أن قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وقد وضع الحراس على مخارج الكوفة لمنع الشيعة من الالتحاق بالإمام الحسين (ع)، وأودع الكثير منهم في السجون، غير أن البعض منهم استطاع الخروج من الكوفة والانضمام إلى معسكر الحسين أمثال: حبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة الأسديين، ونافع بن هلال الجملي وغيرهم وقاتلوا معه حتى استشهدوا (رضوان الله عليهم).
وبعد مقتل الحسين (ع) كان أولئك الشيعة الذين منعتهم الظروف القاهرة من الالتحاق بالحسين (ع) يتحرّقون أسىً وندماً على أن لم يكونوا معه (ع) فعقدوا العزم على الثورة والثأر لتلك الدماء الطاهرة التي سالت في كربلاء وصمّموا على الموت في سبيل ذلك واصطبغ شعارهم بيا ثارات الحسين، فاجتمعوا في دار سليمان بن صرد الخزاعي على وضع أسس الثورة وكانوا مائة رجل تزعمهم خمسة من كبار الشيعة وهم:
4 ــ عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي
وكان هؤلاء الخمسة من طليعة الشيعة المخلصين لأهل البيت (ع) ومن أصحاب أمير المؤمنين (ع) والمشاركين معه في حروبه، فاجتمعوا في دار سليمان لمداولة الأوضاع وما لحق بالأمة من الجور والظلم من قبل الأمويين، وخاصة مقتل الإمام الحسين (ع) وأهل بيته، وما جرى في كربلاء من المآسي على نسائه وأطفاله وأخذهم أسارى إلى يزيد، فانبثقت في ذلك اليوم فكرة الثورة حينما خاطب أحد هؤلاء القادة أصحابه وهو المسيب بن نجية معلناً حتمية التصدي للحكم الأموي المستبد فكان مما قاله لهم بعد أن ذكر استشهاد الحسين وما جرى عليه وعلى أهل بيته في كربلاء:
(لا عذر دون أن تَقتلوا قاتله، أو تُقتلوا في طلب ذلك ...)
لقد حدَّد المسيب الهدف من الثورة وطلب منهم الاستعداد لها وتنظيم أمورها، وقبل ذلك طلب منهم اختيار قائد لها فاقترح عليهم رفاعة بن شداد الذي خطب بعد المسيب تولية سليمان بن صرد الخزاعي قائداً عليهم ووصفه بأنه: (المحمود في بأسه ودينه الموثوق بحزمه) فوجد هذا الاقتراح استجابة وترحيباً من الجميع، وكان سليمان كفؤاً لهذه القيادة فألقى عليهم خطاب رجل مصمم إلى الشهادة فكان مما قاله:
(ألا لا تهابوا الموت فما هابه أحد قط إلا ذل) ... وفي نهاية خطابه قال لهم وهو يشحذ هممهم ويرفع من معنوياتهم:
(أحدّوا السيوف وركّبوا الأسنة حتى تدعو الناس وتستنفروهم)..
1 ــ أبو مطرف سليمان بن صُرَّد الخزاعي: من الصحابة الأجلاء، ومن خيار أصحاب أمير المؤمنين وقادة جيشه، وهو أول من نادى بشعار يا لثارات الحسين.
2 ــ المسيب بن نجبة بن ربيعة بن رياح الفزاري: حضر مع أمير المؤمنين حروبه كلها وسكن الكوفة، ولما أرسل معاوية مسعدة بن حكمة الفزاري للإغارة على البلاد لأخذ البيعة له بالقوة، أرسل أمير المؤمنين المسيب بن نجبة الفزاري إليه وقال له: (إنك يا مسيب من أثق بصلاحه وبأسه)، وقد ولاه (ع) مع عبد الرحمان بن محمد الكندي قبض الصدقة بالكوفة، ثم إنه حاسبهما فلم يجد عليهما شيئاً، فوجههما بعد ذلك في عمل ولاهما إياه، فلم يجد عليهما سبيلاً، فقال (ع): (لو كان الناس كلهم مثل هذين الرجلين الصالحين ما ضرّ صاحب غنم لو خلاها بلا راع، وما ضر المسلمات لا تغلق عليهن الأبواب، وما ضر تاجر ألقى تجارته بالعراء).
3 ــ عبد الله بن وال التيمي: الأمير الثالث للتوابين كان من خيار أصحاب أمير المؤمنين، ومن زعماء الشيعة في الكوفة وشعرائهم وفقهائهم وعبادهم، وكان من أوائل المبايعين لأمير المؤمنين ومن قادة جيشه، وقد أرسله (ع) لقتال الخرِّيت بن راشد، وفي عهد الإمام الحسن (ع) كان قد تجهز لقتال معاوية، كما كان من حملة رسائل أهل الكوفة إلى الإمام الحسين (ع) وكان دوره في ثورة التوابين هو جمع المال والسلاح للثورة.
4 ــ عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي: من أصحاب أمير المؤمنين والحسنين (ع) وكان قد اقترح على سليمان بن صرّد أن يقتل قتلة الحسين في الكوفة قبل خروجه منها لكن سليمان رفض كما سيأتي الكلام في ذلك.
5 ــ أبو عاصم رفاعة بن شداد البجلي: كان أميراً على قومه بجيلة في صفين مع أمير المؤمنين (ع)، كما اشترك معه (ع) في الجمل أيضاً، وهو من الرهط الذين سعدوا بدفن أبي ذر الغفاري (رضوان الله عليه)، كما قال رسول الله (ص): (يا أبا ذر تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك، وتدخل الجنة وحدك، يسعد بك أقوام من أهل العراق يتولون غسلك وتجهيزك ودفنك)، فكان أحد هؤلاء الرهط رفاعة، وقد روى رفاعة أحاديث رسول الله (ص) عن عمرو بن الحَمِق الخزاعي وهو صحابي وكان صديقه، وقد أرسله أمير المؤمنين في خلافته قاضياً على الأهواز وبعد معركة عين الوردة اشترك رفاعة مع المختار في ثورته وقتل فيها.
إذا كان على هذه الثورة أن تقوم فعلى قادتها تخطي أمرين مهمين، وهما: الانتظار ريثما يتم ترسيخ فكرتها في النفوس وكان ذلك عسيراً وخاصة في ذلك الوضع الإرهابي الدموي والجو المرعب الذي يعيشه الناس، فلا تزال أحداث كربلاء حديثة العهد في القلوب، وقد ملأ صداها البلاد فخيّمت أجواء الخوف على الناس، وتلتها حادثة الحرة الدموية التي ارتكب فيها الجيش الأموي مجزرة رهيبة في مدينة الرسول (ص).
ورغم مشاعر الحنق والسخط الداخلي الذي تكنه الناس للأمويين، إلا أن أحدهم لا يجرؤ على البوح به، فكان على قادة الثورة كسر حواجز الخوف بالدعوة إلى أخذ الثأر والتخلص من هذه الزمرة الفاسدة أو الشهادة، وكان الجميع يعرف أن الخيار الثاني هو الراجح فمجرّد الحديث عن فكرة الثورة يشكل أمراً غاية في الخطورة، إضافة إلى أن الدعوة إلى الثورة خلت من أي حافز مادي.
أما الأمر الثاني: فهو المال الذي يلبّي مطالب الثورة من السلاح والخيل وغيرها، وكان هذا الأمر أسهل من الأول، حيث استعان سليمان بالشيعة في البلاد فأرسل رسالتين إلى سعيد بن حذيفة بن اليمان وأصحابه في المدائن، والمثنى بن مخرمة العبدي في البصرة أخبرهما بأمر الثورة وطلب منهما المساعدة فلبيا دعوته.
رغم امتداد خبر الثورة والدعاية لها من الكوفة مركز قيادتها إلى البصرة والمدائن وخاصة الأخيرة التي لاقت فيها فكرة سليمان استجابة واسعة ونشطت فيها الدعاية للثورة، إلا إن الدعاة كانوا شديدو التكتم عليها، حتى أن والياً داهية كعبيد الله بن زياد والي العراق من قبل يزيد والذي عرف بسطوته وأساليبه الجاسوسية لم يشك بأحد قادتها أو يكشف له أحد جواسيسه عن أمرها في الأمصار الثلاثة التي كانت تحت سيطرة حكمه أيضاً، وبقي الاستعداد للثورة وتهيئة أمورها وتذليل عقباتها وجمع السلاح لها مستمراً لمدة ثلاث سنين حتى حان وقت الثورة.
بعد ثلاث سنوات من واقعة كربلاء مات يزيد بن معاوية وشب صراع على الحكومة بين بني أمية، وقويَ نفوذ عبد الله بن الزبير في مكة، واضطربت الأوضاع في البلاد، وقد كان لموقف معاوية بن يزيد دوراً في زعزعة الحكم الأموي عندما أعلن تنازله عن الخلافة وإدانته الصريحة لجده وأبيه واستنكاره جرائمهما بحق أهل البيت (ع) والمسلمين، فأعلن صراحة أنهما قد اغتصبا الخلافة من أهلها وأنه لن يحذو حذوهما، فقال: (إن هذه الخلافة حبل الله، وإن جدي معاوية نازع الأمر أهله ومن هو أحقّ به منه، علي بن أبي طالب (ع)، وركب بكم ما تعلمون، حتى أتته منيّته، فصار في قبره رهيناً بذنوبه، ثم قلد أبي الأمر، وكان غير أهل له، ونازع ابن بنت رسول الله (ص)، فقُصف عمره، وانبتر عقبه، وصار في قبره رهيناً بذنوبه). ثم بكى وقال: (من أعظم الأمور علينا، علمنا بسوء مصرعه وبؤس منقلبه، وقد قتل عترة رسول الله (ص)، وأباح الخمر، وخرّب الكعبة، ولم أذق حلاوة الخلافة، فلا أتقلد مرارتها، فشأنكم أمركم، والله لئن كانت الدنيا خيراً، فقد نلنا منها حظاً، ولئن كانت شراً، فكفى ذرية أبي سفيان ما أصابوا منها) فبقي أربعون يوماً حتى اغتاله مروان.
وقد مال أهل العراق إلى ابن الزبير للتخلص من الأمويين، فهرب عبيد الله بن زياد إلى البصرة لكثرة من فيها من أتباع الأمويين، ولكن سطوته وسلطانه لم يعودا كالسابق فقد أثار مقتل الحسين (ع) النفوس على الأمويين. يقول ابن قتيبة الدينوري: (فخفت قبضته، ولانت سطوته، وأصبح الموقف فيها مضطرباً كغيرها من الأقطار، ومع ذلك فقد ظل فيها أميراً لفترة قصيرة، ثم أخذ سلطانه في الضعف، فكان يأمر بالشيء ولا يقضى، ويرى الرأي فيرد، ويأمر بحبس المخطئ فيحال بين أعوانه وبينه، وبلغ من استخفافهم به أنه كان إذا صعد المنبر يحصبونه بالحجارة ويسبونه). (33)
لقد شاء الله أن يذل هذا الطاغية، ويريه الذل والهوان في الدنيا قبل عذاب الآخرة، فهرب من البصرة إلى الشام، أما في الكوفة فقد طرد أهلها قبلها عامله عليها عمرو بن حريث منها، فعيّن ابن زياد عمر بن سعد أميراً مكانه، فخرج أهل الكوفة بأجمعهم إلى الطرقات وخرجت نساؤها باكيات يندبن الحسين (ع) وأهل بيته فألهبن المشاعر واستنفرن النفوس فطردوا ابن سعد من القصر وسبّوه وسبّوا ابن زياد واختاروا أميراً عليهم عامر بن مسعود، وكاتبوا ابن الزبير بذلك فوافق، وبعد فترة عزله ابن الزبير وولّى على الكوفة أحد أتباعه وهو عبد الله بن يزيد الأنصاري، وتغلغل حكم ابن الزبير إلى العراق وضمّه إلى حكمه في الحجاز، ولم يبق له سوى الشام الذي أضعفته الانشقاقات والنزاعات، فأعلن فيه مروان بن الحكم زعيم الأمويين خضوعه لابن الزبير واستعد للسفر إلى الحجاز لمبايعة ابن الزبير لولا وصول ابن زياد الذي أقنعه بالعدول عن رأيه وحضّه على انتزاع الخلافة من ابن الزبير فبايعه الناس وأصبحت أمور البلاد بيد خليفتين متنازعين، فشاعت الفوضى وتفشت الفتن والحروب واشتد الصراع بين أصحابهما وتابعيهما.
كانت هذه الأوضاع المزرية هي فرصة ذهبية لإعلان الثورة وإخراجها من طور التنظير إلى التطبيق، فأرسل سليمان رسله إلى المدائن والبصرة وحدد لأصحابه فيهما موعداً لليوم والمكان الذي ستنطلق فيه شرارة الثورة، وفي الليلة الأولى من شهر ربيع الأول سنة (65 هـ) أعلن سليمان بن صرد الخزاعي أمير التوابين، الثورة على الحكم الأموي برفع شعار: (يا لثارات الحسين)، وأرسل رجاله في شوارع الكوفة وهم يصيحون بهذا النداء وجاءوا إلى المسجد الأعظم في وقت صلاة العشاء وهو ممتلئ بالمصلين، فأثار هذا النداء النفوس وسرت في الضمائر الحمية لدينهم ولإمامهم الشهيد، فهرعوا إلى بيوتهم لتوديع أهاليهم وخرجوا بسلاحهم ملبين نداء الثأر، وارتفع صوت شاعر التوابين عبد الله بن عوف الأحمر الازدي مستنفراً الناس لقتال الأمويين بقوله:
صحـوتُ وودعتُ الصـبا والغوانيا *** وقلـتُ لأصحابي أجيـبـوا المناديا
وقـولوا له إذ قـامَ يدعــو إلى الهدى *** وقبـــل الـدعا لبيــك لبيـك داعيـا
ألا وانع خيرَ النــاسِ جدَّاً ووالداً *** حـسـيـناً لأهلِ الـدينِ إن كـنـتَ ناعيا
وقوموا له إذ شــدَّ للحـربِ أزرَه *** فكل امـرىءٍ يُجـزى بمـا كان ساعيا
وقـودوا إلى الأعــداءِ كلَّ مضمَّرٍ *** لحوقٍ وقـودوا الســابحاتِ النواجيـا
وسيروا إلى الأعداءِ بالبيضِ والقنا *** وهـزُّوا حـراباً نحـوهـم والعـواليـا
وحنّـوا لخيـرِ الخـلقِ جَـدَّاً ووالـداً *** حسينٌ لأهـلِ الأرضِ لا زالَ هاديـا
ألا ابكوا حسيناً معـدنَ الجودِ والتّقى *** وكـانَ لتـضعيـفِ المثوبـةِ راجيا
ألا ابكـوا حسيـنـاً كلّمـا ذرَّ شـارقٌ *** وعنـد غـسوقِ الليـلِ فابكوا إمـاميا
ويبكي حسيناً كل حافٍ وناعلٍ *** ومن راكـبٍ في الأرضِ أو كانَ ماشيا
لحـا الله قومـاً كاتبـوه لغـدرِهم *** وما فيهــمُ مـن كـــــــــان للديـنِ حاميا
ولا من وفى بالعــهدِ إذ حُمـي الوغى *** ولا زاجراً عنه المضليـنَ ناهيا
ولا قـائلاً لا تقتلــوهُ فتـخسـروا *** ومن يقتـلُ الزاكــــين يـلقـى المخازيا
و لـم يـكُ إلا نـاكثـاً أو مُـعـانداً *** وذا فجـرةٍ يـأتـي إليـهِ وعـــــــــــــاديا
وأضحـى حسـينٌ للرمـاحِ دريئةً *** فغُـودِرَ مســـــــلوباً لدى الطفِّ ثاويا
قتيلاً كأن لم يـعـرفِ النـاسُ أصلَه *** جـزى اللهُ قـومــاً قاتلـــوه المخازيا
فيــا ليتـني إذ ذاكَ كنـتُ شهدته *** وضاربتُ عـنـه الشــانئيــــن الأعاديا
ودافعتُ عـنه ما استطـعـتُ مجاهداً *** وأغمـــدتُ سيفي فيهــــمُ وسِنانيـا
و لكن عـذري واضحٌ غيـرُ مختفٍ *** وكـان قعــــودي ظلّـة من ضلاليا
ويـا ليتني غُـودرتُ فيمن أجـابه *** وكنتُ لـه في موضــــعِ القـتـلِ فاديـا
ويـا ليتني جــاهدتُ عنـه بأسرتي *** وأهلـي وخلّاني جميـــــــعـاً وماليـا
تزلزلـتُ الآفـاقُ من عظـمِ فقدِهِ *** وأضحى له الحــصنُ المحصَّنُ خاويا
وقد زالت الأطوادُ من عـظمِ قتلِهِ *** وأضحى لـه سامي الشناخيبِ هاويا
وقد كسفـتْ شمسُ الضحى لمصابِهِ *** وأضحـتْ لـه الآفاقُ جهراً بواكـيا
فيا أمّةً ضلّـتْ عـن الحـقِ والهُدى *** أنيبوا فـــــإنَّ اللهَ فـي الحكـمِ عــاليا
وتوبوا إلى التوَّابِ مـن سـوءِ فعلِكم *** وإن لم تتوبـوا تدركـونَ الـمخازيا
وكونوا ضرامـاً بالسيـوفِ وبالقنا *** تفوزوا كمـا فازَ الــذي كان ســاعيا
وإخواننا كانـوا إذا اللـيـلُ جاءهمْ *** تلـوا طولـه القـــــــرآنَ ثـمَّ المثــانيـا
أصابهمُ أهـلُ الشقــاوةِ والغِوى *** فحتـى متى لا يبــعـثُ الجيش عاديا ؟
عليهمْ سلامُ اللهِ ما هــبَّت الصبا *** وما لاحَ نجـمٌ أو تحــــــــــــدَّر هاويا
سقى الله قبراً ضمَّـــنَ المجــدَ والتقى *** بغربيةِ الطفِّ الغمـــــامَ الغواديا
فيا أمَّةً تاهتْ وضــلّتْ سفاهةً *** أنيبوا فأرضوا الواحدَ المتعـــــــــــــاليا
وهذا الشاعر كان قد شهد مع أمير المؤمنين (ع) في صفين وقصيدته هذه كانت تخبأ أيام الأمويين، وظهرت بعدهم وتسمى من القصائد المكتمات وهي كما يلاحظ ملحمة ثورية تحض الناس على الأمويين وتدين بشدة قتلهم سبط النبي (ص) الإمام الحسين (ع).
كان ابن الزبير ينظر بعين الارتياح إلى هذه الثورة، فالكوفة انشقت إلى جماعتين وهدفهما واحد وهو محاربة الأمويين رغم الاختلاف في المصالح والنوايا، لذلك أوعز لعامله عليها ترك الثوار، فالثوار كانوا يريدون من قتال الأمويين طلب الثأر للإمام الحسين (ع) وقد استماتوا على القتال، أما ابن الزبير فلم يكن يهمه سوى ضمّ العراق إلى ملكه رغم أنه كان يتظاهر بالتنديد بقتل الحسين (ع) لشحن الصدور على بني أمية، لذلك رفض عبد الله بن يزيد طلب بعض أهل الكوفة ممن اشترك في قتل الحسين قتال التوابين ومنعهم من الثورة، حيث أفزعت شعاراتهم وصيحاتهم ونداءاتهم قلوب قتلة الحسين، وكان ابن يزيد ذكياً في رفضه هذا فرد عليهم: (الله بيننا وبينهم إن هم قاتلونا قاتلناهم، وان تركونا لم نطلبهم، وليس لدينا ما يمنع من خروجهم على من قتل الحسين، لعن الله قاتليه وظالميه، هذا ابن زياد قاتل الحسين وقاتل خياركم وأماثلكم قد توجه إليكم من الشام وأصبح على مسيرة يوم من جسر منبج، فقتاله والاستعداد له أولى وأرشد من أن تجعلوا بأسكم بينكم ليقتل بعضكم بعضا فيلقاكم عدوكم غدا وقد أنهككم القتال وتلك والله أمنيته)
لقد كان سياسياً، فقد كان يعلم أنه يحدّث قاتلي الحسين (ع) ولعن قتلته، فابن زياد لم يكن يريد أن يقاتل الشيعة فحسب، بل كان يطمح بانتزاع الكوفة من سلطان ابن الزبير وإرجاعها إلى الأمويين، وابن يزيد كان يعرف إن هو قاتل التوابين فسيؤدي ذلك إلى إنهاك معسكره وإضعافه، وستكون الكوفة لقمة سائغة لابن زياد، خاصة وأن أنصار الأمويين فيها لا يقلون عن أنصاره، ثم إنه وابن الزبير ينظرون إلى التوابين والأمويين نظرة واحدة، رغم أنهم يعلمون أن الأمويين يشكلون الخطر الأكبر عليهم نظراً للقوة غير المتكافئة، وكان ابن يزيد يضمر خلاف ما أراد هؤلاء الذين طلبوا منه قتال التوابين.
لما سمع عبد الله بن الزبير بأخبار الثورة واجتماع هذا العدد من الرجال تحت قيادة سليمان فأراد أن يسرق تلك الجهود التي بذلها سليمان وأصحابه طوال ثلاث سنوات من التعبئة والاستعداد ويحوّل النتائج إلى صالحه فكتب إلى عبد الله بن يزيد أمير الكوفة، وإبراهيم بن محمد بن طلحة أمير خراجها ورسم لهم خطته.
أرسل عبد الله وإبراهيم رسولاً إلى سليمان يخبره بأنهما يريدان لقاءه، فوافق سليمان، لكنه لم ينفرد بلقائهما بل جمع رؤساء أصحابه وجلسوا حوله وأمر رفاعة بتعبئة الجيش، فجاء إبراهيم وعبد الله ومعهم رؤساء قبائل الكوفة وأشرافها، ولم يأت معهم أحد ممن اشترك في قتل الحسين (ع) وذلك بإيعاز من ابن الزبير لكسب ودّهم وخوفاً من إثارتهم ضده، فأشار عبد الله وإبراهيم على سليمان أن يتريثوا ولا يستعجلوا بالثورة، فإذا جاء عبيد الله بن زياد لقتالهم قاتلوه معاً هم والثوار وعرضوا عليه منحه وأصحابه خراج جوخى، لكن سليمان رفض رفضاً قاطعاً وقال لهم: (إنا ليس للدنيا خرجنا).
لقد أوضح سليمان هدفه من الثورة وبيّن الاختلاف بينه وبين هدف الزبيريين من قتال الأمويين، ولم تنفع محاولات عبد الله ومغرياته بأن يضم الثوار إلى جيش ابن الزبير أو إرسال جيش له معهم، لأن سليمان كان يعرف بما يضمره ابن الزبير الماكر، فالجيش الذي سيبعثه معهم لقتال ابن زياد يختلف هدفه تماماً مع هدف الثورة، وأين ابن الزبير من طلب الثأر للإمام الحسين (ع) وهو لا يقل عداوة لأهل البيت (ع) من الأمويين، وقد حاك هذه الخدعة لسرقة جهود الثورة لصالحه، فأربعة آلاف مقاتل مدججون بالسلاح ومن شجعان أهل الكوفة قوة لا يستهان بها إذا جندها لصالحه وضرب بها مع جيشه جيش الشام، لكن سليمان وأصحابه صانوا ثورتهم وأهدافهم وعقيدتهم وما صمّموا عليه بالرفض القاطع.
ولم ييأس ابن يزيد فكتب إلى سليمان حينما سار بأصحابه كتاباً يقول فيه: (أما بعد فإن كتابي لكم كتاب ناصح مشفق، تريدون المسير بالعدد اليسير إلى الجمع الكثير والجيش الكبير، وقد علمتم أنه من أراد أن يقلع الجبال من أماكنها تكل معاوله ولا تظفر بحاجته، فيا قومنا لا تطمعوا عدوكم في أهل بلدكم فإنكم خيار قومكم، ومتى ظفر بكم عدوكم طمع في غيركم من أهل مصركم وهلاككم ومن خلفكم، يا قومنا إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا، فارجعوا واجعلوا أيدينا وأيديكم اليوم واحدة على عدونا وعدوكم، فإنه متى اجتمعت كلمتنا ثقلنا على عدونا فلا تستعيبوا نصحي ولا تخالفوا أمري، وأقبلوا حين تقرأون كتابي هذا أقبل بكم إلى طاعته وأدبر بكم عن معصيته والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته).
بذل ابن يزيد جهده كي يظهر بمظهر الناصح الشفيق رغم أنه تعدّى حدود المنطق في ذلك، لكن سليمان لم يتنازل عن موقفه، فلما وصل كتاب ابن يزيد إلى سليمان وقرأه تمثل ببيت فضح به نوايا ابن الزبير وعامله حيث قال:
أرى لكِ شكلاً غير شكلي فأقصري *** عن اللومِ إذ بدلّت واختلفَ الشكلُ
فعبّر بهذا البيت عن اختلاف التوجّهات والأهداف بينه وبين الزبيريين تماماً ثم قال: (إنا وهؤلاء مختلفون... ولا أرى الجهاد مع ابن الزبير إلا ضلالاً، وأنا إن نحن ظهرنا رددنا هذا الأمر إلى أهله، وإن أصبنا فعلى نياتنا تائبين من ذنوبنا).
ومع ذلك فإن أخلاق سليمان أبت عليه إلا أن يجيبه فأرسل كتاباً يشكر فيه ابن يزيد على نصيحته جاء فيه: (أما بعد فقد قرأنا كتابك أيها الأمير، وفهمنا ما نويت، فنعم أخو العشيرة أنت ما علمناك في المشهد بالمغيب، غير أنا سمعنا الله تعالى يقول في كتابه وقوله الحق: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). وأعلمك أيها الأمير إن القوم قد استبشروا ببيعهم الذي بايعوه، وقد تابوا إليه من عظيم ذنوبهم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته). فسدّ سليمان بهذا الكتاب كل الأبواب أمام مطامع ابن الزبير وأفشل مخططه.
لم يأت إلى سليمان من واعده على المجيء من البصرة والمدائن فجعل بعض أصحابه يلوم من تأخر فقال لهم سليمان: (لا تلوموهم فإنهم سيلحقونكم قريباً متى بلغهم خبر مسيركم وما أراهم تأخروا إلا لقلة النفقة). وكان سليمان مصيباً في قوله كما سنرى.
قاد سليمان جنوده وتوجه نحو النخيلة وعسكر بها في انتظار من يأتي إليه من الثوار، وبقي ثلاثة أيام فاجتمع عنده من الرجال خمسة آلاف رجل وأراد التريّث قبل المسير أكثر وأرسل إلى بعض من بقي في الكوفة فقال له المسيب بن نجية: (إنه لا ينفعك الكاره للخروج، ولا يقاتل معك إلّا من خرج على بصيرة محباً للخروج فلا تنتظر أحداً).
وكان المسيب محقاً، فبعد أن اطلع سليمان من اجتمع عنده على هدف الثورة وجعلهم على بينة من النتائج لم يبق من الخمسة آلاف غير أهل البصيرة الذين قصدهم المسيب، وهم ثلاثة آلاف ومائة رجل، ولما تجهّز سليمان للسير لقتال أهل الشام، قال له عبد الله بن سعد بن نفيل: (إنا خرجنا نطلب بدم الحسين (ع) والذين قتلوه كلهم بالكوفة منهم عمر بن سعد وغيره، وليس في الشام سوى عبيد الله بن زياد). فقال له سليمان: (إن الذي قتله وعبأ الجنود إليه عبيد الله بن زياد فسيروا إليه على بركة الله فإن ينصركم الله رجونا أن يكون من بعده أهون علينا منه ورجونا أن يطيعكم أهل مصركم ــ أي الكوفة ــ بغير قتال فتنظرون إلى كل من شرك في دم الحسين (ع) فتقتلونه، وإن تستشهدوا فما عند الله خير للأبرار فاستخيروا الله وسيروا).
لقد أراد سليمان استئصال رأس الأفعى وهو عبيد الله بن زياد أولاً بإعلان الثورة، وإذا قدِّر للثورة النجاح، فإن قتل من دون عبيد الله سيكون أسهل، كان لا يريد أن تخرج الأمور عن السيطرة في الكوفة ويؤخذ البريء بحكم الجاني، فلو فعل ما قاله له عبد الله لشاعت الفوضى وأثيرت الأحقاد بين الناس وتنمّر الجبناء وألصقوا التهم بمن لهم معهم عداوة، فترك الكوفة إلى حين يستأصل الذي أمر بقتل الحسين، ثم تكون هناك محاكمة عادلة لقتلة الحسين والقصاص منهم، ثم هناك أمر آخر وهو أن سليمان لا يريد أن يضعف هذا الجيش بالداخل بإثارة الموالين لقتلة الإمام الحسين (ع) من أمويي الهوى، بل يريد توجيهه إلى الشام، وهو ما أفصح عنه بقوله:
(إني لأحب أن تجعلوا حدّكم وشوكتكم بأوّل المحلين القاسطين، والله، لو قاتلتم غداً أهل مصركم ما عدم رجل أن يرى رجلاً قد قتل أخاه وأباه وحميمه، أو رجلاً لم يكن يريد قتله...) (34)
أراد أن يضع الناس أمام الاختبار الحقيقي ليميّز المخلصين من غيرهم، وليعرف المضحّين بأنفسهم في نصرة إمامهم اقتداءً بالإمام الحسين (ع)، عندما بقي معه ثلة قليلة من الرجال كانوا على قدر عالٍ من المسؤولية، وأكفاء للمهمة التي سعى من أجلها.
سار سليمان بأصحابه من النخيلة حتى وصلوا مكاناً يسمى (دير الأعور) فباتوا فيه، وفي اليوم التالي أكملوا سيرهم فباتوا في مكان يسمى (أقساس بني مالك) وهو على شاطئ الفرات، وفي اليوم الثالث وصلوا إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين (ع)، فلما وصلوا ضجّوا بالبكاء وصاحوا صيحة واحدة وازدحموا حول القبر الشريف حتى صار ازدحامهم على القبر ازدحام الحجاج على الحجر الأسود، وباتوا ليلتهم يبكون ويتضرّعون إلى الله أن يغفر لهم وصاح زعيمهم: (ربّ ارحم الحسين، الشهيد ابن الشهيد، المهدي ابن المهدي، الصديق ابن الصديق: ربّ اشهد أننا اتباع دينهم وسبيلهم، وأننا أعداء قاتليهم وأحباء محبيهم). ثم قام من بينهم وهب بن زمعة الجعفي المعروف بـ (أبو دعبل الجحمي) وهو يبكي عند القبر الشريف وأنشد هذه الأبيات:
عجبتُ وأيامُ الزمــانِ عجائبٌ *** ويظــهرُ بين المعجباتِ عـظيمُها
تبيتُ النشاوى من أميَّةَ نوَّماً *** وبالطـــــــفِّ قتلى ما ينـامُ حميمُها
وتضـحى كرامٌ من ذؤابةِ هاشمٍ *** يُحكَّمُ فيـــها كيفَ شــــاءَ لئيمُها
وربَّـاتُ صـونٍ ما تبدَّتْ لعينِها *** قبيلَ الصبــا إلّا لـوقــتٍ نجومُها
تزاولها أيدي الهــوانِ كأنّما *** تقحَّمَ ما لا عــفــــــــــــوَ فيه أثيمُها
وما أفسـدَ الإسلامَ إلّا عـصابةٌ *** تآمر نوكاها ودامَ نـعيـــــــــــمُها
وصارتْ قناةُ الدين في كـفِّ ظالمٍ *** أذا مالَ منها جانبٌ لا يـقيمُها
وخاضَ بها طخياء لا يهتدى لها سبيلٌ ولا يرجو الهُـدى من يعومُها
إلى حيثُ ألقـاها ببيـداءَ مجهلٍ *** تضلُّ لأهلِ الحلـمِ فيـها حــلومُها
رمتها لأهلِ الطـفِّ منهـا عصابةٌ *** حداها إلى هدمِ المكارمِ لؤمُها
فشفّتْ بها شعواء في خيرِ فتيةٍ ** تـخلّتْ لكسبِ المكرمـاتِ همومُها
أولئـــكَ آلُ اللهِ آلُ محمدٍ *** كرامٌ تحدَّتْ ما حـــــــــــــداها كريمُها
يخوضونَ تيَّارَ المنـايا ظوامياً * كما خاضَ في عذبِ المواردِ هيمُها
يقومُ بهم للمجـدِ أبيضُ ماجدٍ *** أخو عَزَمَــــاتٍ أقعدتْ من يرومُها
فأقسمتُ لا تنفكُّ نفسي جزوعةً *** وعيني سفوحاً لا يمـلُّ سجومُها
حيــاتيَ أو تلقى أميَّةُ وقعةً *** يذلُّ لها حتى الممــــــــــاتِ قرومُها
وهذه الأبيات تفصح عن عزيمة الثوار وإصرارهم على ما مضوا عليه، وأقاموا على القبر ثلاثة أيام ثم ودعوا القبر وداع الذي لا يؤوب حتى بقي سليمان مع ثلاثين من أصحابه آخر الناس فأحاطوا بالقبر فقال سليمان: (الحمد لله الذي لو شاء أكرمنا بالشهادة مع الحسين (ع)، اللهم إذ حرمتنا منها معه فلا تحرمنا منها فيه بعده). وكان معه عبد الله بن عوف الأحمر وهو راكب على فرس فقال:
خرجنَ يلمعنَ بِنا إرسالا *** عوابـســـاً يحــملنَنا أبطـالا
نريدُ أن نلقي بها الأقيالا *** القاسطين الـغـدَّرَ الضّـلّالا
وقد رفضنا الوِلد والأموالا والـخفرات البيض والحجالا
نرجو به التحـفة والنوالا *نـرضي به ذا النعـم المفضالا
سار سليمان بمن معه من الثوّار بعد أن غادر كربلاء إلى الأنبار، وفيها جاءهم رسول من عبد الله بن يزيد برسالة يطلب منهم الرجوع إلى الكوفة فقال سليمان: (قد أتانا هذا ونحن في مصرنا، فحين وطّنا أنفسنا على الجهاد ودنونا من أرض عدونا نرجع ! ما هذا برأي). كان لا يزال عبد الله يأمل أن يحقق حلم سيده ابن الزبير بضمِّ الثوار إلى جيشه لكنه فشل مرة أخرى، فكتب إليه سليمان مع الرسول: (إن القوم قد استبشروا ببيعهم أنفسهم من ربهم وتوجهوا إلى الله وتوكلوا عليه ورضوا بما قضى الله عليهم) فتنبأ عبد الله باستشهادهم حين جاءه جواب سليمان فقال: (قد استمات القوم والله ليقتلن كراماً مسلمين).
استمر سير سليمان للقاء العدو فمرَّ بهيت ومنها إلى قرقيسيا، وقد سلك التوّابون طريق الجزيرة وكانوا يمرّون بالمدن ويتفادون طريق الصحراء لإمداد جيشهم بمن يريد الالتحاق بهم من الناس، خاصة بعد أن تخلّى عنهم بعض الذين لم يستوعبوا مبادئ الثورة وفضّلوا الحياة الدنيا على الآخرة، فرجعوا إلى الكوفة بعد أن تناهى إليهم أن جيشاً كبيراً للأمويين قادم لقتالهم، ولكن ذلك لم يثبط من عزيمة الثوار وإصرارهم ويحط من معنوياتهم، فساروا حتى وصلوا قرقيسيا ــ قرب دير الزور ــ التي كانت تضم القيسيين والكلابيين المعارضين للدولة الأموية وكان أميرها زفر بن الحارث الكلابي الذي سدّ الأبواب بوجوههم ومنعهم من دخولها، لكن سليمان أرسل إليه المسيب بن نجية والذي اطلعه على هوية الثوار وهدفهم فاعتذر إليه زفر بأنه لم يكن يعلم بهم وما مرادهم من القدوم عليه، ثم فتح لهم الأبواب، وقدم لهم المساعدات وأمدّهم بالطعام والسلاح وأعلاف الخيل وكل ما يحتاجونه، ولكنه تجنّب مدّهم بالرجال لأنه كان يرى أن ثورتهم محكوم عليها بالفشل ــ كما صارحهم هو بذلك ــ وأن لا طاقة لهذه المجموعة على قتال جيش نظامي كبير، وفيما هو يودّعهم خارج المدينة إذ وصل إليه خبر وصول عبيد الله بن زياد إلى الرقة بجيش كبير قوامه ثلاثون ألف مقاتل، ومعه خمسة من كبار قادة أهل الشام وأشدّهم كرهاً للشيعة وهم: الحصين بن نمير السكوني، وشرحبيل بن ذي الكلاع الحميري، وأدهم بن محرز الباهلي، وربيعه بن مخارق الغنوي، وجبله بن عبد الله الخثعمي.
فأشار زفر على سليمان وأصحابه بالرجوع إلى قرقيسيا، والتحصّن بها، والانضمام إلى جيشه لقتال الأمويين معاً يداً واحدة، وحذرهم من كثرة جيش العدو، وقال لهم: (إن شئتم دخلتم مدينتنا وكانت أيدينا واحدة، فإذا جاء هذا العدو قاتلناه جميعا).
ولكن سليمان وأصحابه رفضوا هذا الطلب بشدّة كما رفضوا نفس الطلب من عبد الله بن يزيد والي الكوفة، ورد سليمان على زفر قائلاً: (قد أرادنا أهل مصرنا على مثل ما أردتنا عليه، وذكروا الذي ذكرت، وكتبوا إلينا بعدما فصّلنا، فلم يوافقنا ذلك فلسنا فاعلين). وكما ألحّ ابن يزيد في طلبه من التوابين التروّي والتريّث أو الانضمام إلى الجيش الزبيري فقد حذا حذوه الأمير الكلابي فخرج معهم خارج أسوار قرقيسيا لعله ينجح بإقناعهم في العدول عن رأيهم والانضمام إليه، ولما استيأس منهم لجأ إلى النصيحة لهم بإعطائهم معلومات عن الأرض التي يعرفها هو جيداً، وأين ينزلون لقتال العدو، فاختار لهم (عين الوردة) المكان الذي جرت فيه المعركة إضافة إلى توجيهات أخرى، حيث قال لهم: (إني للقوم ــ أي الأمويين ــ عدو، وأحب أن يجعل الله عليهم الدائرة، وأنا لكم وادٍ أحب أن يحوطكم الله بالعافية. إن القوم قد وصلوا إلى الرقة فبادروهم إلى عين الوردة، فاجعلوا المدينة في ظهوركم ويكون الرستاق والماء والمادة في أيديكم وما بيننا وبينكم فأنتم آمنون منه. فاطووا المنازل فوا الله ما رأيت جماعة قط أكرم منكم، فأني أرجو أن تسبقوهم، وان قاتلتموهم فلا تقاتلوهم في فضاء ترامونهم وتطاعنوهم، فإنهم أكثر منكم ولا آمن أن يحيطوا بكم فلا تقفوا إليهم فيصرعوكم ولا تصغوا إليهم فاني لا أرى معكم رجّالة ومعهم الرجّالة والفرسان وبعضهم يحمي بعضاً، ولكن ألقوهم في الكتائب والمقانب ثم بثوها فيما بين ميمنتهم وميسرتهم واجعلوا مع كل كتيبة أخرى إلى جانبها، فإن حُمل على إحدى الكتيبتين رحلت الأخرى فنفست عنها. ومتى شاءت كتيبة ارتفعت ومتى شاءت كتيبة انحطت، ولو كنتم صفاً واحداً فزحفت إليكم الرجالة فدفعتم عن الصف انتفض وكانت الهزيمة).
قد يتبادر سؤال مهم، أو بالأحرى عدة أسئلة، وهي: من هو زفر بن الحارث الكلابي هذا ؟ ولِمَ فتح للتوابين أبواب قرقيسيا لمّا عرف بهدفهم بعد أن أغلقها في وجوههم ؟ ثم لِمَ أبدى مساعدته لهم ومدهم بما يحتاجون إليه إلا الرجال ؟ ولِمَ حاول ثنيهم عن عزمهم في قتال الأمويين وألح في طلبه عليهم بالانضمام إليه ؟ ثم لم أعطاهم المعلومات المهمة عن الأرض والخطط القتالية قبل خوض معركتهم مع الأمويين ؟
كل هذه الأسئلة تجيبنا عنها سيرة هذا الرجل الذي لم يقدم كل هذه (الخدمات) حباً بالتوابين، ولا إيماناً بمبدئهم، ولا لشعور بالانتماء إليهم، ولو كان لديه هذا الشيء لانضم إليهم أو على الأقل لمدهم بالرجال، رغم أن سليمان لم يطلب منه ذلك، لقد كان لزفر هذا نفس نوايا عبد الله بن الزبير وعامله عبد الله بن يزيد الأنصاري، ولبس أمام التوابين نفس قناع عبد الله بن يزيد ليظهر بمظهر الناصح الشفيق ولكنه فشل أيضاً في خطته كما فشل من قبله، فمن هو زفر هذا ؟
كان زفر هذا أموي الهوى والانتماء وكان يسكن في البصرة، وحينما خرج أتباع عثمان بن عفان من البصرة لإنقاذه وفك الحصار عنه كان زفر في طليعتهم، ثم حضر حرب الجمل لقتال أمير المؤمنين (ع) تحت راية عائشة، وعزَّز موقفه مع معسكر الباطل بانضمامه إلى معسكر البغي والغي في صفين فكان أحد قادة جيش معاوية وقد ولاه معاوية على قنسرين ولم يزل مخلصاً لمعاوية، تابعاً له على ظلمه وجوره حتى مات معاوية، فبقيَ على طاعة يزيد بعده، وفي عهد يزيد اشترك زفر في الجريمة البشعة والمجزرة الرهيبة مع مسلم بن عقبة في واقعة الحرة التي استباح بها المدينة لثلاثة أيام، وكان فيها قائداً في الجيش الأموي وقد امتلأ تاريخه بالجرائم فإضافة إلى واقعة الحرة، فقد هاجم بني تغلب في فترة تمرّده على الأمويين، وأعدم مائتي أسير منهم، وهنا تزداد علامات الاستفهام حول الغاية من عمله مع التوّابين وما هو سر هذا الانقلاب على أسياده الأمويين ؟
تبدأ قصة الانقلاب عندما تخلى معاوية بن يزيد عن الخلافة، واضطربت أوضاع البلاط الأموي وانشقت صفوفه وضعف أمره، فيما كان نفوذ ابن الزبير يتّسع وقويت شوكته، خاصة بعد تفاقم نقمة الناس على الأمويين وسخطهم لقتلهم سبط رسول الله (ص)، ولما كان زفر من أولئك الوصوليين الذين يميلون إلى الجهة التي تميل إليها موازين القوى بغض النظر عن عدالة تلك الجهة من عدمها، فقد مال إلى ابن الزبير وبايعه بالخلافة مع أشباهه في نفسيته وأطماعه وانتهازيته وهم: الضحاك بن قيس الفهري الذي كان والياً على دمشق، والنعمان بن بشير الأنصاري الذي كان والياً على حمص، ونائل بن قيس الجذامي الذي كان والياً على فلسطين، وقد اجتمع هؤلاء الأربعة على نقض بيعة الأمويين والخروج من طاعتهم والدخول في طاعة ابن الزبير واستخلاص الشام له وانتزاعها من الأمويين، وأول من استعد لخوض هذه المعركة هو الضحاك وطلب المعونة من رفاقه الثلاثة فأمدّوه بأتباعهم ووقفوا معه، وكان تجمّعهم في مرج راهط ولما سمع بهم مروان جهز جيشا عظيما وسار لقتالهم.
وبعد معركة ضارية انتصر مروان على هذا التحالف الرباعي وانتهت بهزيمتهم، وفيها قُتل الضحاك وثلاثة من أولاد زفر فهرب إلى قرقيسيا، وكان عليها عياض الجرشي والياً من قبل الأمويين، فمنعه من دخولها ولكن زفر تمكّن من خداعه فأقسَم له أنه لا يريد به شراً، وأنه يريد أن يتزوّد من الطعام ويستريح قليلاً ثم يغادر البلدة فقال له: (أعدكم بطلاق زوجاتي أنه بمجرّد دخول حمام المدينة سأغادر البلدة). لكنه نكث بوعده فدخل مع رجاله ثم انضمّت إليه قبائل قيس من هوازن، وبنو سليم، وغطفان، وبنو غني، وسائر قبائل قيس عيلان، فأطاح بالوالي عياض وأخرجه من قرقيسيا وتولى إمارتها مكانه، وبقي على طاعته لابن الزبير فكان يساعد مصعب حتى مات مروان وتولى عبد الملك الخلافة، فسار الأخير لقتاله بنفسه في قرقيسيا وحاصره وجرت بينهما عدة معارك قتل فيها ابنه الرابع وكيع، ثم أعطاه عبد الملك الأمان فرجع زفر إلى حضيرة الأمويين وبقي تابعا لهم حتى مات.
ويبدو من خلال هذه السيرة أن الأمور قد تكشّفت، فمساعدة زفر للتوابين كان بدافع الانتقام من الأمويين لهزيمته في مرج راهط ومقتل أبنائه فيها، إضافة إلى إشغال الأمويين بالقتال مع التوابين وإضعاف قوات الفريقين بمعركة لا يخسر هو فيها شيئاً، فقد كان ولاؤه للزبيريين فقدم للتوابين كل ما يحتاجونه من عدّة وأسدى لهم توجيهاته، وفضّل عدم مدّهم بالرجال للاحتفاظ بهم إذا تعرّض لهجوم من قبل الأمويين، وهو ما حصل في زمن عبد الملك فواجهه زفر بكامل قواته.
فعل هذا بعد أن آيس من انضمام التوابين إليه، فقد رأى فيهم قوة لا يستهان بها، فحاول كسبهم وضمّهم إلى جيشه للقتال تحت إمرته طبعاً، ولا يُعلم ما الذي كان ينوي عمله معهم في حال انتصاره على الأمويين ؟ وفي حال موافقة التوّابين على الانضمام إليه ؟ فمثل هكذا مجرم من الممكن أن يتوقّع الإنسان أن تصدر عنه كل بائقة، لذلك رفض سليمان الانضمام إليه رفضاً قاطعاً لأن هدفه من قتال الأمويين يتناقض تماماً مع هدف التوابين.
سار التوابون حتى وصلوا عين الوردة وفيها عسكروا خمسة أيام، فلما سمع بهم ابن زياد وهو في الرقة في طريقه إليهم أرسل أمامه مقدمة اصطدمت بمقدمة التوابين وكان قائد التوابين عليها المسيب بن نجية، فهزمهم المسيب هزيمة نكراء فلما سمع ابن زياد بذلك أرسل الحصين بن نمير بجيش قوامه اثنا عشر ألفاً.
اصطف الفريقان للقتال في اليوم الثاني والعشرين من جمادي الأولى سنة (65 هـ) فدعا الحصين سليمان وأصحابه الثوار إلى الدخول في طاعة عبد الملك بن مروان، فرفض سليمان الذي بالمقابل دعا الحصين وأهل الشام إلى الخروج من طاعة الأمويين وتسليم عبيد الله بن زياد، وكان الجواب هو الرفض أيضاً ولم يبق إلا القتال.
خطب سليمان أصحابه فقال: (فقد أتاكم الله بعدوكم الذي دأبتم في المسير إليه آناء الليل والنهار تريدون فيما تظهرون التوبة النصوح ولقاء الله معذورين، فقد جاؤوكم بل جئتموهم أنتم في دارهم وحيزهم. فإذا ألقيتموهم فأصدقوهم واصبروا إن الله مع الصابرين) ثم أوصاهم بقوله: (لا تقتلوا مدبراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تقتلوا أسيراً من أهل دعوتكم، إلا أن يقاتلكم بعد أن تأسروه، أو يكون من قتلة إخواننا بالطف). ثم ترجل سليمان عن فرسه وكسر جفن سيفه وهو دلالة على القتال حتى الموت وحرض أصحابه على القتال وبشرهم بالكرامة من الله بالشهادة ثم قال:
إليكَ ربي تُبـتُ من ذنوبي *** وقد علاني في الورى مشيبي
فارحمْ عُبيداً غير ما تكذيبِ *** واغفر ذنوبي سيدي وحوبي
ثم قال: (إن أنا قتلت فأميركم المسيب بن نجية، فإن قُتل فالأمير عبد الله بن سعد بن نفيل، فإن قُتل فالأمير عبد الله بن وال، فإن قُتل فالأمير رفاعة بن شداد).
ثم هجم على ميسرة الحصين فهزمها رغم قلة أصحابه وكبر سنه، فقاتل ومعه الثوار قتالاً أرعب العدو وأذهلهم وفرّق جمعهم وانتهى القتال ذلك اليوم لصالح التوابين.
وفي اليوم الثاني: وصل شرحبيل بن ذي الكلاع ومعه ثمانية آلاف مقاتل تعزيزاً للحصين، فاشتد القتال أكثر من اليوم الأول، وصمد التوابون أمام جيش الشام رغم قلتهم وكثرة جيش العدو الذي يفوق عددهم بسبعة أضعاف، وكثر القتلى والجرحى من الفريقين ومازالوا يقاتلون حتى حجز بينهم الليل.
وفي اليوم الثالث: وصل أدهم بن محرز الباهلي من قبل ابن زياد بجيش قوامه عشرة آلاف مقاتل، فصاروا ثلاثين ألفاً وأحاطوا بالتوابين واشتد القتال فلما رأى سليمان أصحابه وقد أحاط بهم جيش الشام، صاح فيهم: (يا عباد الله، من أراد البكور إلى ربّه، والتوبة من ذنبه، والوفاء بعهده، فليأت إليَّ). فجاء أصحابه إليه واجتمعوا عنده وكسروا جفون سيوفهم ومشوا جميعاً إلى العدو فقتلوا من جيش الشام عدداً كبيراً وجرحوا كثيراً منهم، فلما رأى الحصين استبسال التوابين وبطولاتهم أمر الرماة برميهم بالنبال فجاءتهم السهام كالمطر، ورمى يزيد بن الحصين بن نمير سليمان بسهم فقتله.
أخذ الراية المسيب بن نجية بعد مقتل سليمان بن صرد وترحم على سليمان واستبسل في قتال جيش الشام هو وأصحابه واقتحم صفوفهم وهو يقول:
قد علمتْ ميَّالةُ الذوائبْ *** واضحة الخدَّيـــــن والترائبْ
أني غداة الروعِ والمغــالبْ *** أشجعُ من ذي لبدةٍ مواثبْ
وكان المسيب كما قال، فقد أذهل العدو بشجاعته الفائقة التي لم تقل عن شجاعة سليمان وقد وصفه أحد الذين شاركوا في (عين الوردة) بقوله: (ما رأيت أشجع منه إنساناً قط، ولا من العصابة التي كان فيهم، ولقد رأيته يقاتل قتالاً شديداً ما ظننت أنّ رجلاً واحداً يقدر أن يُبلي مثل ما أبلى، ولا ينكأ في عدوه مثل ما نكأ).
واستمر المسيب في قاتله بمن معه حتى قُتل فأخذ الراية عبد الله بن سعد بن نفيل وترحّم على سليمان والمسيب ثم اقتحم صفوف جيش الشام وهو يقول:
ارحمْ إلهي عبــدكَ التوّابا *** ولا تؤاخــــــــذهُ فقد أنابا
وفارقَ الأهلينَ والأحبابا *** يرجو بذاكَ الفوزَ والثوابا
وحفّ به أصحابه من الأزد فقاتلوا قتالاً شتت شمل العدو وبينما هو يقاتل إذ وصل ثلاثة فرسان: وهم عبد الله بن الخضل الطائي، وكثير بن عمرو المزني، وسعر بن أبي سعر الحنفي، وكانوا رسل سعد بن حذيفة بن اليمان من المدائن، والمثنى بن مخرمة العبدي من البصرة ليخبروا التوابين بخبر خروج سعد من المدائن للالتحاق بالتوابين ومعه مائة وسبعون رجلاً، وخبر خروج المثنى بن مخرمة العبدي من البصرة مع ثلاثمائة رجل لنصرتهم، ولكن الأوان قد فات ..
وصل الرسل في وقت أحاط جيش الشام بالتوابين وكان الفارق في العدد بنسبة واحد إلى عشرة، وكثر القتلى من الفريقين وتيقّن التوابون من الشهادة، حتى أن عبد الله بن سعد بن نفيل قال للرسل: (ذلك لو جاءونا ونحن أحياء) !
ولما نظر الرسل إلى كثرة القتلى من الثوّار واستبسال الباقين في القتال، ساءهم ذلك، وانضموا إلى إخوانهم الثوار وكانوا من شجعان الحرب فهجم الطائي على جيش الشام وهو يقول:
قد علمتْ ذاتُ القوامِ الرودِ *** أنْ لستُ بالواني ولا الرعديدِ
يوماً ولا بالفَــــــــــــــــــرِقِ الحيودِ
وقاتل مع صاحبيه الحنفي والمزني قتالاً عظيماً وقتلوا جماعة من جيش الشام، ثم تكاثروا عليهم وقتلوهم، وقُتل معهم أمير التوابين الثالث عبد الله بن سعد بن نفيل وبقيت الراية على الأرض، فنادوا على الأمير الرابع عبد الله بن وال فوجدوه يقاتل في جهة أخرى مع جماعة معه، فجاء إليه رفاعة بن شداد وحل محله في القتال وفك عنه حصار العدو فجاء عبد الله وأخذ الراية وقال لأصحابه: (من أراد الحياة التي ليس بعدها موت، والراحة التي ليس بعدها نصب، والسرور الذى ليس بعده حزن، فليتقرّب إلى ربه بجهاد هؤلاء المحلين، والرواح إلى الجنة رحمكم الله)، وقاتل حتى قطعت يده اليسرى، فاستند قليلاً إلى بعض أصحابه ويده تنزف، ثم وقف وهو يحرّض أصحابه على القتال، ويشد من عزيمتهم، وهجم أمامهم على العدو وهو يقول:
نفسي فداكم اذكروا الميثاقا *** وصابروا واحذروا النفـاقا
لا كـــــوفة نبغي ولا عراقا *** لا بل نريدُ الموتَ والعناقا
ولما قتل عبد الله بن وال ومعه جماعة قلّ عدد التوابين كثيراً، فأشار عليهم الأمير الخامس رفاعة بن شداد بالرجوع عندما طلبوا منه أخذ الراية بعد أن رأى أنهم ميّتون لا محالة فقال لهم: (لعل الله يجمعنا ليوم هو شر لهم).
ولكن عبد الله بن عوف الأحمر كان له رأي آخر وهو الاستمرار بالقتال حتى مغيب الشمس ثم السير على مهل فقال له: (ليس هذا برأي، لئن انصرفنا ليتبعوننا فلا نسير فرسخاً حتى نقتل عن آخرنا، وإن نجا منا أحد أخذته العرب يتقرّبون به إليهم فيقتل صبراً، ولكن هذه الشمس قد قاربت الغروب فنقاتلهم على خيلنا فإذا غسق الليل ركبنا خيولنا أول الليل وسرنا حتى نصبح ونسير على مهل ويحمل الرجل صاحبه وجريحه ونعرف الجهة التي نتوجه إليها). فاستصوب رفاعة رأيه وأخذ الراية ورجع للقتال بمن معه وحاول جيش الشام القضاء عليهم واستئصالهم في ذلك اليوم قبل أن تغرب الشمس لكنهم فشلوا لبسالة التوابين وبطولتهم.
ولم يوافق بعض التوابين على قرار رفاعة بالانسحاب من المعركة فنادى كريب بن زيد الحميري على جماعة من حمير وهمدان وقال لهم: (عباد الله روحوا إلى ربكم والله ما في شيء من الدنيا خلف من رضا الله وقد بلغني أن طائفة منكم يريدون الرجوع، فأما أنا فو الله لا أولي هذا العدو ظهري حتى أرد مورد أخواني)، فوافقوا على رأيه، وفي المساء لمح جيش الشام فرساناً يتقدّمون نحوهم شاهرين سيوفهم وهجموا عليهم كالصاعقة فما أحسوا إلا والسيوف تلتقط رؤوسهم وتقطع أجسامهم.
كان كريب الحميري قد جمع مائة فارس تقريباً وتعاهدوا على الموت، وهجموا على جيش الشام هجمة رجل واحد وأوقعوا كثيراً من القتلى والجرحى فارتعب شرحبيل بن ذي الكلاع من هؤلاء الأبطال، فعرض عليهم الأمان فأجابه كريب: (قد كنا آمنين في الدنيا وإنما خرجنا نطلب أمان الآخرة) ثم حرّض كريب أصحابه على القتال فقاتلوا حتى قتلوا بأجمعهم.
ولم يكن رأي كريب هذا وحده عند التوابين فقد كان هناك رأي وفعل مماثل له قام به صخر بن حذيفة بن هلال المزني الذي جمع حوالي ثلاثين رجلاً من قومه مزينة، وعاهدهم على القتال حتى الموت وقال لهم: (لا تهابوا الموت في الله فإنه لاقيكم ولا ترجعوا إلى الدنيا التي خرجتم منها إلى الله فإنها لا تبقى لكم ولا تزهدوا فيما رغبتم فيه من ثواب الله فإن ما عند الله خير لكم) فعاهدوه على ذلك وفعلوا كما فعل كريب وأصحابه حتى قتلوا جميعا.
ولما رجع جيش الشام إلى معسكرهم ليلاً جمع رفاعة جرحى التوابين وأعطى كل جريح إلى الناجين من قومه لحمله معهم ثم سار بالجميع على مهل خشية لفت انتباه جيش الشام، وبقي يسير الليل كله بهم وطلب من أبي الجويرية العبدي أن يسير خلفهم مع سبعين رجلا فإذا سقط رجل منهم حملوه.
وفي الصباح لم يجد الحصين لهم أثراً، لكن بعض التوابين ندموا على ترك الحرب وتأهّبوا للرجوع لقتال جيش الشام وكانوا حوالي عشرين رجلاً بقيادة عبد الله بن غزية، فأقسم رفاعة وأصحابه عليهم بالله أن يرجعوا فرجعوا سوى رجل واحد منهم: اسمه عبيدة بن سفيان فإنه غافل أصحابه وانسل من بينهم ورجع إلى عين الوردة فهجم على جيش الشام يقاتلهم لوحده حتى عقر فرسه فاستمر يقاتلهم راجلا وهو يقول:
إني من اللهِ إلى اللهِ أفرْ *** رضوانكَ اللهمَّ أبدي وأسرْ
فذهل الجميع من شجاعته، وقالوا له: (من أنت) ؟ فقال: (من بني آدم لا أحب أن أعرفكم ولا أن تعرفوني يا مخربي البيت الحرام) فالتفوا حوله وقتلوه.
وسار جيش الشام حاملاً رأسي سليمان والمسيب بن نجية إلى مروان بن الحكم، وقد حملهما أدهم بن محرز الباهلي، أما رفاعة فقد سار بمن بقي معه من التوابين حتى دخل الكوفة، وفي هذا الوقت وصل سعد بن حذيفة بن اليمان ومعه أصحابه من النهروان إلى هيت فجاءه خبر المعركة، فرجع وفي الطريق التقى بالمثنى بن مخرمة ومعه أهل البصرة فأخبره بما آل إليه مصير المعركة، ولما سمع بهم رفاعة جاء إليهم فاستقبلوه وأقاموا ليلة ثم مضى كل فريق إلى بلده. وقد رثى أعشى همدان التوابين بقصيدة طويلة وذكر أسماء بعض التوابين وذكر شجاعتهم النادرة فيها وهذه القصيدة كانت مما يكتم في ذلك الزمان فسمِّيت هي وغيرها من المكتمات وهي:
ألـمَّ خـيـالٌ مـنكِ يــا أمَّ غـالـبِ *** فـحـيـيـتِ عـنّـا مـن حـبـيــبٍ مُـجانبِ
وما زلتُ في شجوٍ وما زلتُ مقصداً *** لهم غير أنّي من فـراقكِ ناصبِ
فما أنسَ لا أنسَ انفتالكِ في الضحى ** إلينا مع البيضِ الحسانِ الخراعبِ
تراءتْ لنا هيفاءُ مهضـومةُ الحشا *** لـطـيـفـة طيّ الكشـحِ ريّـا الحقائبِ
مـشـيـكـة غـزّار ودسـى بـهـائـها *** كشمسِ الضّحى تنكلُّ بين السحائبِ
فلمّا تغشّاها السحــابُ وحوله *** بدا حاجبٌ منـــــــــــها وضـنّتْ بجانبِ
فتلكَ النوى وهي الجـوى ليَ والمنى *** فأحـببْ بها من خـلّة لمْ تصاقـبِ
ولا يبـعدُ الله الشـبـابَ وذكـرَه *** وحبَّ تصـــافي المعـصراتِ الكواعبِ
ويزدادُ ما أحببته من عتــابِنا *** لعـــــــــــــــــاباً وسـقياً للخدينِ المقاربِ
فـإني وإن لـم أنســهنَّ لـذاكــرٌ *** رويّـة مخـبـــــــــــاتٍ كـريمِ المناسـبِ
توسّـل بالتـقـوى إلى اللهِ صادقـاً *** وتقوى الإلهِ خيـــــرُ تـكسابِ كـاسبِ
وخلّى عن الدنـيــا فلمْ يلتـبسْ بـهـا *** وتــــــابَ إلى اللهِ الرفـيعِ الـمراتبِ
تـخلّى عن الدنـيـا وقـالَ طرحـتُها *** فلســـــــــتُ إليـها ما حيـيـتُ بـآيـبِ
ومـا أنا فيمـا يـكـرهُ النــاسُ فـقدَه *** ويسـعى لـه الســــاعون فيها براغبِ
توجّـه مـن نحـوِ الثـويّــةِ سـائـراً *** إلى ابـــــن زيادٍ في الجموعِ الكـتائبِ
بـقـومٍ هـمُ أهـلُ النـقيبة والنُهـى *** مصالـيــــــــــــتُ أنجـادٍ سراةٌ منـاجبِ
مضوا تاركي رأيَ ابن طـلحة حسبـةً *** ولم يسـتجيـبوا للأميرِ المـخاطبِ
فـساروا وهـمْ ما بين ملـتمـسِ التقى *** وآخر ممــــــا جرّ بـالأمـسِ تائـبِ
فـلاقوا بعينِ الوردةِ الجيشَ فـاصـلاً *** إليهـم فحـيّـــــوهم ببـيضٍ قواضبِ
يمــانيةُ تـذري الأكــفَّ وتـارة *** بخيلٍ عـتـــــــــــــاقٍ مـقربـاتٍ سلاهـبِ
فـجاءهمُ جـمعٌ من الـشــامِ بـعده *** جموعٌ كــمــوجِ البـحرِ من كلِّ جانـبِ
فـما برحــوا حتى أُبِيدتْ سـراتُـهم *** فـلم يـــنــــجَ منهـم ثم غير عصائـبِ
وغُودرَ أهلُ الصبرِ صرعى فأصبحوا *** تعاوُرهم ريـحُ الصبا والجنائـبِ
فأضحى الخزاعــيُّ الرئيـسُ مُجـدّلاً *** كأنْ لم يقــــــــاتلْ مـرةً ويـحـاربِ
ورأسُ بني شمــخٍ و فارسُ قومِه *** جميعاً مع التيـــــــــميّ هادي الكتائبِ
وعمرو بن عمرو وابــنُ بشـرٍ وخالدٌ *** وبكرٌ وزيــــدٌ والحليسُ بن غالبِ
وضاربَ من همدان كــلَّ مشيَّعٍ *** إذا شــــــــــــــدّ لم ينكلْ كريمَ المكاسبِ
ومن كل قومٍ قد أصبـتَ زعيمَهم *** وذو حـسـبٍ في ذروة المجد ثـــــــاقبِ
أبوا غير ضربٍ يفلقُ الهـامَ وقعه *** وطعنٍ بأطـــــــــــرافِ الأسنةِ صائبِِ
وإن سعيداً يــومَ يدمر عامراً *** لأشجعَ مــن ليـــــــــــــــــثٍ بدربٍ مواثبِ
فيا خيرَ جيشٍ للعــراقِ وأهلِه *** سُقيتــــــــــــــــــــم روايا كلِّ أسحمَ ساكبِ
فـلا تـبـعـدوا فـرسـانـنــا وحـمـاتـنـا *** إذا الـبيضُ أبدتْ عن خدامِ الكواعبِ
فإن تقتلوا فالقتــــلُ أكرمُ ميتةٍ *** وكلُّ فتى يوماً لإحــــــــــــــــــدى النوائبِ
و ما قتلوا حتى أصابوا عصـــابةً *** محلين حـــــــــوراً كالليوثِ الضواربِ
لقد تركت ثورة التوابين أروع دروس التضحية والفداء التي سجلها أبطالها في مقارعة الظلم الأموي اقتداء بسيد الشهداء الإمام الحسين (ع)، وأوصلت رسالة إلى الأمويين مفادها أن الظلم لا يمكن أن يدوم مهما استفحل واستشرى، ودقت ناقوس الخطر في الشام، وأكدت للأمويين أن جريمتهم في كربلاء لا يمكن أن يغفرها أهل العراق، وهو ما تحقق على يد المختار الذي مهدت له هذه الثورة القصاص من قتلة الحسين (ع).